الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَكَذَلِكَ «الْخَمْرُ» يُبَاحُ لِدَفْعِ الْغُصَّةِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُبَاحُ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ لَمْ يُبِحْهَا قَالَ: إنَّهَا لَا تَدْفَعُ الْعَطَشَ وَهَذَا مَأْخَذُ أَحْمَد. فَحِينَئِذٍ فَالْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى دَفْعِ الْعَطَشِ بِهَا فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا تَدْفَعُهُ أُبِيحَتْ بِلَا رَيْبٍ كَمَا يُبَاحُ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِدَفْعِ الْمَجَاعَةِ وَضَرُورَةِ الْعَطَشِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يُهْلِكُهُ أَعْظَمَ مِنْ ضَرُورَةِ الْجُوعِ؛ وَلِهَذَا يُبَاحُ شُرْبُ النَّجَاسَاتِ عِنْدَ الْعَطَشِ بِلَا نِزَاعٍ فَإِنْ انْدَفَعَ الْعَطَشُ وَإِلَّا فَلَا إبَاحَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ «الْمَيْسِرُ» فَإِنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ السَّبْقَ فِيهِ بِمَعْنَى الْمَيْسِرِ لِلْحَاجَةِ فِي مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُبِحْ الْعِوَضَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُطْلَقًا إلَّا الْمُحَلَّلَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَيْسِرَ أَخَفُّ مِنْ أَمْرِ الْخَمْرِ وَإِذَا أُبِيحَتْ الْخَمْرُ لِلْحَاجَةِ فَالْمَيْسِرُ أَوْلَى. وَالْمَيْسِرُ لَمْ يُحَرَّمْ لِذَاتِهِ إلَّا لِأَنَّهُ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. فَإِذَا كَانَ فِيهِ تَعَاوُنٌ عَلَى الرَّمْيِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ وَعَلَى الْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ تَعَاوُنٌ وَتَتَأَلَّفُ بِهِ الْقُلُوبُ عَلَى الْجِهَادِ زَالَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ. وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْغَرَرِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَيْسِرِ وَيُبَاحُ مِنْهُ أَنْوَاعٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَرُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ.وَكَذَلِكَ «الرِّبَا» حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَأَوْجَبَ أَلَّا يُبَاعَ الشَّيْءُ إلَّا بِمِثْلِهِ ثُمَّ أُبِيحَ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ خَرْصًا عِنْدَ الْحَاجَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهَا تُحَرَّمُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. وَلِهَذَا- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- نَفَى التَّحْرِيمَ عَمَّا سِوَاهَا وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ مِنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ فَلَمَّا أَثْبَتَ فِيهَا التَّحْرِيمَ الْعَامَّ الْمُطْلَقَ نَفَاهُ عَمَّا سِوَاهَا.والْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا يَفْعَلُ فِي الْإِنْسَانِ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيُبِيحُهُ وَبَيْنَ مَا يَسْكُتُ عَنْ نَهْيِ غَيْرِهِ عَنْهُ وَتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مَا لَوْ نَهَى عَنْهُ حَصَلَ مَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ وَلَمْ يُبِحْهُ أَيْضًا. وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا حُرِّمَ الْخُرُوجُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ بِالسَّيْفِ؛ لِأَجْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ وَاجِبٍ أَعْظَمَ مِمَّا يَحْصُلُ بِفِعْلِهِمْ الْمُنْكَرَ وَالذُّنُوبَ وَإِذَا كَانَ قَوْمٌ عَلَى بِدْعَةٍ أَوْ فُجُورٍ وَلَوْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرٌّ أَعْظَمُ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُمْ مِنْهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالنَّهْيِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ. بِخِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنْ دَعْوَةِ الْخَلْقِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ يَحْصُلُ بِهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَتِهَا كَدَعْوَةِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ وَنُوحٍ لِقَوْمِهِ فَإِنَّهُ حَصَلَ لِمُوسَى مِنْ الْجِهَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَحَصَلَ لِقَوْمِهِ مِنْ الصَّبْرِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ مَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ بِهِ حَمِيدَةً وَحَصَلَ أَيْضًا مِنْ تَغْرِيقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ عَظِيمَةً. وَكَذَلِكَ نُوحٌ حَصَلَ لَهُ مَا أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ ذُرِّيَّتُهُ هُمْ الْبَاقِينَ وَأَهْلَك اللَّهُ قَوْمَهُ أَجْمَعِينَ فَكَانَ هَلَاكُهُمْ مَصْلَحَةً. فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ إذَا زَادَ شَرُّهُ بِالنَّهْيِ وَكَانَ النَّهْيُ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً كَانَ حَسَنًا وَأَمَّا إذَا زَادَ شَرُّهُ وَعَظُمَ وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ خَيْرٌ يَفُوتُهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَصْلَحَةٌ زَائِدَةٌ فَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى شَرٍّ أَعْظَمَ مِنْهُ لَمْ يُشْرَعْ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ لَا صَبْرَ لَهُ فَيُؤْذَى فَيَجْزَعُ جَزَعًا شَدِيدًا يَصِيرُ بِهِ مُذْنِبًا وَيَنْتَقِصُ بِهِ إيمَانُهُ وَدِينُهُ. فَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ خَيْرٌ لَا لَهُ وَلَا لِأُولَئِكَ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا صَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ وَجَاهَدَ وَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بَلْ اسْتَعْمَلَ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ؛ فَإِنَّ هَذَا تَكُونُ عَاقِبَتُهُ حَمِيدَةً. وَأُولَئِكَ قَدْ يَتُوبُونَ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِبَرَكَتِهِ وَقَدْ يُهْلِكُهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلُ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِظَنِّهِ أَنَّهُ يُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مَفْسَدَةً أَوْ مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَتِهِ وَقَدْ تَنْقَلِبُ تِلْكَ الطَّاعَةُ مَفْسَدَةً؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَمْ يُحَرِّمْهُ لَكِنْ قَدْ يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ الْمُحَرَّمَ ثُمَّ يَتُوبُ وَتَكُونُ مَصْلَحَتُهُ أَنَّهُ يَتُوبُ مِنْهُ وَيَحْصُلُ لَهُ بِالتَّوْبَةِ خُشُوعٌ وَرِقَّةٌ وَإِنَابَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ الذُّنُوبَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَصْلَحَةٌ مَعَ التَّوْبَةِ مِنْهَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِعَدَمِ الذُّنُوبِ كِبْرٌ وَعُجْبٌ وَقَسْوَةٌ فَإِذَا وَقَعَ فِي ذَنْبٍ أَذَلَّهُ ذَلِكَ وَكَسَرَ قَلْبَهُ وَلَيَّنَ قَلْبَهُ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّوْبَةِ. وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ وَيَفْعَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ وَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي ابْتِلَاءِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالذُّنُوبِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَمَّا بِدُونِ التَّوْبَةِ فَلَا يَكُونُ الْمُحَرَّمُ إلَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَقِدَ حِلَّ مَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ قَطْعًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ قَطْعًا فَإِنْ غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ وَشَيْطَانُهُ فَوَقَعَ فِيهِ تَابَ مِنْهُ فَإِنْ تَابَ فَصَارَ بِالتَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَهُ فَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِ حِينَ تَابَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَتُبْ لَفَسَدَ حَالُهُ بِالذَّنْبِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَنَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَتُوبُ وَلَا يُبِيحُ الشَّارِعُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَا أُطْعِمُ نَفْسِي مَا يُمْرِضُنِي ثُمَّ أَتَدَاوَى أَوْ آكُلُ السُّمَّ ثُمَّ أَشْرَبُ التِّرْيَاقَ.وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّوْبَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحْصُلُ الدَّوَاءُ بِالتِّرْيَاقِ وَغَيْرِهِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الشُّرْبِ أَمْ لَا؟ لَكِنْ لَوْ وَقَعَ هَذَا وَكَانَتْ آخِرَتُهُ إلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحِ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَبِالْعَفْوِ عَمَّا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَقَدْ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا لَيْسَ صَلَاحُهُ إلَّا فِي أَنْ يُذْنِبَ وَيَتُوبَ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ شَرًّا مِنْهُ لَوْ لَمْ يُذْنِبْ وَيَتُبْ؛ لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَحِكْمَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ الْإِنْسَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَلَيْسَ مَا يَفْعَلُهُ خَلْقًا- لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ- يَجُوزُ لِلرُّسُلِ وَلِلْعِبَادِ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَيَأْمُرُوا بِهِ. وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى لَمْ تَكُنْ مُخَالِفَةً لِشَرْعِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَلَا فَعَلَ الْخَضِرُ مَا فَعَلَهُ لِكَوْنِهِ مُقَدَّرًا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ؛ بَلْ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا مُطْلَقًا؛ وَلَكِنْ خَرَقَ السَّفِينَةَ وَقَتَلَ الْغُلَامَ وَأَقَامَ الْجِدَارَ فَإِنَّ إتْلَافَ بَعْضِ الْمَالِ لِصَلَاحِ أَكْثَرِهِ هُوَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ دَائِمًا. وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْإِنْسَانِ الصَّائِلِ لِحِفْظِ دِينِ غَيْرِهِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ وَصَبْرُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْجُوعِ مَعَ إحْسَانِهِ إلَى غَيْرِهِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ. فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ مَا ظَاهِرُهُ فَسَادٌ فَيُحَرِّمُهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا فُعِلَ وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِمَنْ عَلِمَ مَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوجِبُ حُسْنَهُ وَإِبَاحَتَهُ. وَهَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّ الشِّرْكَ وَالْقَوْلَ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَالْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالظُّلْمَ: لَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَقَتْلُ النَّفْسِ أُبِيحَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؛ فَلَيْسَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ. وَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ يُبَاحُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَجَاعَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالْعَدْلُ وَاجِبٌ مُطْلَقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ شَرْعٍ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَيَدْعُوهُ مُخْلِصًا لَهُ لَا يَسْقُطُ هَذَا عَنْهُ بِحَالِ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَهُمْ أَهْلُ «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ». فَهَذَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ «مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ لَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» الْحَدِيثَ. فَلَا يَنْجُوَنَّ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إلَّا مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ دِينَهُ وَعِبَادَتَهُ وَدَعَاهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ وَلَمْ يَعْبُدْهُ فَهُوَ مُعَطِّلٌ عَنْ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ: كَفِرْعَوْنَ وَأَمْثَالِهِ فَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمُشْرِكِ؛ فَلابد مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَلَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دِينَا غَيْرَهُ. وَلَكِنْ لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ أَحَدًا حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ فَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ مُؤْمِنَةٌ وَلَا يَدْخُلُهَا مُشْرِكٌ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ فَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فِي الدُّنْيَا اُمْتُحِنَ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَنْ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ فَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ لَا يَدْخُلَ النَّارَ وَلَا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِالنَّارِ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا فَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ إلَيْهِ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَيِّتِ فِي الْفَتْرَةِ الْمَحْضَةِ فَهَذَا يُمْتَحَنُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ. فَيَجِبُ الْفَرْقُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ- وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا هُوَ اللَّازِمُ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ الْعَدْلُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ لَا يُبَاحُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ الْفَوَاحِشُ وَالظُّلْمُ وَالشِّرْكُ وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ- وَبَيْنَ مَا سِوَى ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} فَهَذَا مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ مِنْهُ شَيْءٌ {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} فَهَذَا فِيهِ تَقْيِيدٌ. فَإِنَّ الْوَالِدَ إذَا دَعَا الْوَلَدَ إلَى الشِّرْكِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُ بَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ وَهَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْوَالِدِ هُوَ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ مُشْرِكًا جَاز لِلْوَلَدِ قَتْلُهُ وَفِي كَرَاهَتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إمْلَاقٍ} فَهَذَا تَحْرِيمٌ خَاصٌّ {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} هَذَا مُطْلَقٌ {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} هَذَا مُقَيَّدٌ فَإِنَّ يَتَامَى الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْحَرْبِ يَجُوزُ غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: هَذَا أَخْذٌ وَقُرْبَانٌ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إذَا فُسِّرَ الْأَحْسَنُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} هَذَا مُطْلَقٌ. {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} فَالْوَفَاءُ وَاجِبٌ؛ لَكِنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ عَهْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَسْكُتُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ وَبَيْنَ مَا يَلْفِظُ بِهِ وَيَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ فَحَصَلَ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ وَبَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ. اهـ.
.من فوائد السعدي في الآيتين: قال رحمه الله:يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} من المطاعم والمشارب، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم، فاحمدوه إذ أحلها لكم، واشكروه ولا تردوا نعمته بكفرها أو عدم قبولها، أو اعتقاد تحريمها، فتجمعون بذلك بين القول على الله الكذب، وكفر النعمة، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا، فإن هذا من الاعتداء.والله قد نهى عن الاعتداء فقال: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك.ثم أمر بضد ما عليه المشركون، الذين يحرمون ما أحل الله فقال: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا} أي: كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم، بما يسره من الأسباب، إذا كان حلالا لا سرقة ولا غصبا ولا غير ذلك من أنواع الأموال التي تؤخذ بغير حق، وكان أيضا طيبا، وهو الذي لا خبث فيه، فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث.{وَاتَّقُوا اللَّهَ} في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه، فإنه لا يتم إلا بذلك.ودلت الآية الكريمة على أنه إذا حرم حلالا عليه من طعام وشراب، وسرية وأمة، ونحو ذلك، فإنه لا يكون حراما بتحريمه، لكن لو فعله فعليه كفارة يمين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية.إلا أن تحريم الزوجة فيه كفارة ظهار، ويدخل في هذه الآية أنه لا ينبغي للإنسان أن يتجنب الطيبات ويحرمها على نفسه، بل يتناولها مستعينا بها على طاعة ربه. اهـ..من فوائد صاحب المنار في الآيتين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}.بَدَأَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِآيَاتٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالنُّسُكِ، وَمِنْهَا حِلُّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجُ مِنْهُمْ، وَأَحْكَامُ الطَّهَارَةِ وَالْعَدْلُ، وَلَوْ فِي الْأَعْدَاءِ الْمُبْغِضِينَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَذَا السِّيَاقِ الطَّوِيلِ فِي بَيَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُحَاجَّتِهِمْ، فَكَانَ أَوْفَى وَأَتَمَّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ وَالْوُعُودِ وَالْعِظَاتِ بَيَّنَّا مُنَاسَبَتُهَا لَهُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ عَوْدٌ إِلَى أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالنُّسُكِ الَّتِي بُدِئَتْ بِهَا السُّورَةُ، وَيَتْلُوهَا الْعَوْدُ إِلَى مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا عَلِمْتَ، فَمَجْمُوعُ آيَاتِ السُّورَةِ، فِي هَذَيْنِ الْمَوْضُوعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُجْعَلْ آيَاتُ الْأَحْكَامِ كُلُّهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَتُجْعَلُ الْآيَاتُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي بَاقِيهَا لِمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي حِكْمَةِ مَزْجِ الْمَسَائِلِ وَالْمَوْضُوعَاتِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَثَانِي تُتْلَى دَائِمًا لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا، لَا كِتَابًا فَنِّيًّا وَلَا قَانُونًا يُتَّخَذُ لِأَجْلِ مُرَاجَعَةِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَعَانِي فِي بَابٍ مُعَيَّنٍ.عَلَى أَنَّ فِي نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِ آيِهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا يُدْهِشُ أَصْحَابَ الْأَفْهَامِ الدَّقِيقَةِ بِحُسْنِهِ وَتَنَاسُقِهِ، كَمَا تَرَى فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبِلَهَا مُبَاشَرَةً، زَائِدًا عَلَى مَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ مُنَاسَبَتِهَا لِمَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا.
|